موغلًا في العتمة السميكة | نصوص

أطفال في قطاع غزّة | Getty.

 

موغلًا في العتمة السميكة، قطار ليلتي يهدر ساحبًا مقطوراته المكرورة في الشكل والرائحة، نحو مجهول يتفتّح كوردة تملأ قلبها الحشرات.

ونهاري ذلك المشغول بالهدير الّذي يملأ أوقاتنا بعتمة هي العمى بعينه البصيرة.

الوقت يعبر معي طريقًا ضيّقًا، يتّسع لقطار باتّجاه واحد.

نبتسم ونلمس بعضنا بعضًا، ونرتدّ إلى أرواحنا الأثيريّة، حيث تمضي كلّ روح إلى بستانها، وأحيانًا، أخطئ فأعبر الوقت، لا أجد فيه ما يدعو إلى التسلية.

أحيانًا أخرى، يعبرني الوقت ليصوّب أخطائي، ملتهمًا خلاياي، ويخرج منّي، كأنّ صاحب العين البصيرة لا يراني،

وكأنّني المجهول.

04/11/2023

 

حتّى كتابة هذه الكلمات، اليوم الرابع والعشرون يودّع نفسه، ملقيًا جرائمه في وجه التاريخ، وفي ساعتيه الأخيرتين، شعرت بهدوء امتدّ من ظهيرة اليوم حتّى مساء اليوم الخامس والعشرين، غدًا، يوم جديد برقم جديد، وذاكرة لا نعرف ماذا ستخبّئ لنا.

صوت الزنّانة يهيمن على الموجودات، وعلى مدار الوقت، حتّى أمسى طنينًا متواصلًا يشكّل خلفيّة لحياتنا، ويسكن تفاصيلنا اليوميّة.

لم تطلب بهيّة منّي توضيح أيّ انفجارات هذا المساء، يمكن أن تعكّر مزاجها، خاصّة أنّها تدندن مع أغنية تحبّها، وتجلس مع هاتفها ليس بعيدًا، لكن بحضور طاغٍ في المكان.

سيل الأخبار يتدفّق، وأصوات الطائرات لم تتوقّف منذ الصباح، وكثر الحديث عن ممرّ إنسانيّ لإدخال المساعدات، هل الهدوء الكاذب هو من يعبّد الممرّ الإنسانيّ؟

في اليوم الأوّل من الحرب، يبدأ العدّ التصاعديّ، وتأخذ الأيّام أرقامها، ويُعْرَف اليوم برقمه، فمثلًا، أُصيب بيتي بقذائف المدفعيّة في اليوم الثالث، أمّا باقي الأيّام فتُنْسَب إلى هول المذابح الّتي جرت ضمن نطاق ساعات هذا اليوم أو ذاك؛ ففي اليوم العشرين شهد العالم كيف تُمْسَح عائلات بأكملها من السجلّ المدنيّ؛ أسوة بباقي الأيّام الّتي تفوّقت على السجلّ المدنيّ، وعاشت أحداثًا شهدها العالم أيضًا، كيف تُمْسَح أحياء من الجغرافيا والتاريخ معًا!

30/10/2023

 

أحبّ الموسيقى، وأحبّ الغناء، وأحيانًا يرقّصني الطرب فتتملّكني النشوة.

فكّرت في أن أخرج قليلًا عن السياق المفروض على البلد، بانقطاعي عن كلّ وسائل التواصل، وهيّأت نفسي لسماع الموسيقى والتحليق معها، وسأختم فسحتي بأغنية «سلوا قلبي»؛ إذ ما سمعتها منذ سنوات طويلة؛ في محاولة لترميم روحي من قروحها الدامية.

صوت انفجار عديم الوصف، هزّ البيت هزّة زلزاليّة لذيذة، وكأنّك في قارب.

ارتمت بهيّة على صدري، وهي رفيقتي أيّام الحرب، لا تفارقني إلّا وقت نزولها إلى الشارع لتلعب مع بنات الحارة ألعاب الحرب البريئة.

من شدّة الانفجار؛ اعتقدت أنّ بيت جاري كان هدف الصاروخ، لكنّه كان أبعد بثلاثة جيران.

العناية الإلهيّة تتدخّل لتأجيل الأعمار إلى أجل ما، وأحيانًا تمارس مهامّها بحرفيّة عالية في حصاد الأرواح بالجملة، وبالمئات في بعض المجازر الدامية.

الارتباك والخوف الغامض يدفعان أهل البيت إلى التحرّك في كلّ الاتّجاهات، تتبخّر فكرة الموسيقى وترميم الروح، وقبل أن ينقشع الغبار الكونيّ، أندفع نحو حيوات تتمزّق عند الجيران.

26/10/2023

 

غضبى تطلّ السماء

تخطف زهو النجاة من عين الأفق

وتمسح الغيمات الكسولات

أبصرتُ ليلًا ناصعًا يحدّق في شمسه البعيدة

موتًا حائرًا في ضحاياه

ومجدًا فارغًا من زيته

24/10/2023

 

الوقت والدم يسيلان

يصعدان ويهبطان

ينسابان تحت أقدام المشيّعين.

يسيلان أيضًا في نفوسنا

نكبر بهما، فلا يتقاطعان

وإنْ تقاطعا

فسنحزن حتّى نذوب في مستنقع

رخو، أو، يتدفّقا شاخبين

22/10/2023

 

جالسة كانت الحرب

ثمّ قامت خجولة في أيّامها الأولى

تخفي وجهها وأنفاسها.

أوّل القتلى سيحمل اسمًا ورقمًا

وربّما لون حذائه ستذكره الطبول

سيكون محظوظًا، مُعَرّفًا بالشهيد.

ونمضي أرقامًا متضاربة

بلا أسماءٍ أو حكايات.

قامت الحرب كفتنة ملعونة

ولم تكن نائمة كما تدّعي.

21/10/2023

 

كيف أمضي ليلتي هذه الأيّام؟

أجلس في شرفة تطلّ على الأفق المعتم، لا أرى شيئًا، مشدودًا إلى الطنين اللزج، الزنّانة مزروعة في رؤوسنا.

بين الحين والآخر، تجعر باستعراض وقح، وبعد لحظة أسمع صوت طائرة حربيّة من بعيد، حتّى يعبر صاروخ يضيء عتمة الأفق، إطلاق نار كثيف يتعدّى اللحظات، في خلفيّة المشهد اللامرئيّ؛ لنسمع صوت انفجار هائل، يشتعل ويطلق غيمة عملاقة من الغبار الكونيّ.

20/10/2023

 

صعبة إليك الطريق، يا إلهي

لن تصلك رسائل هذا المساء.

لذلك

لن ترفع البرد

ولن تأمر الجند بالرحيل

لن تلبس كابك الأزرق حين تعبر المخيّم.

وهذا المساء لن ننادي:

الغوث الغوث

خلّصنا من النار يا ربّ

*

ستصرخ يا إلهي! من بعيد:

أين ستهربون؟

وبعد قليل ستسقط إلهًا رشيقا،

تدفع منديلًا أبيض في وجه البركان

وندعو معًا:

الغوث الغوث

خلّصنا من النار يا ربّ

13/10/2023

 

شبعتُ موتًا

حتّى امتلأتُ أنقاضًا ومفقودين

وحكاياتٍ لا تصلح للأحفاد الثكالى.

يا موت، انتظر

أحتاج إلى أن أبلع ريقي

أو حتّى ينتهي الجلّاد من أشغاله.

يا موت...

أيّها المنادى

لا تليق بنا.

12/10/2023

 


 

عثمان حسين

 

 

شاعر من مواليد رفح. مؤسّس ورئيس «جمعيّة عشتار للثقافة والفنون» ومجلّتها الأدبيّة. أصدر عددًا من الأعمال الشعريّة والأدبيّة، ««رفح... أبجديّة ومسافة وذاكرة» (1992)، «البحّار يعتذر عن الغرق» (1993)، «مَنْ سيقطع رأس البحر» (1996)، «له أنتِ» (2000)، «الأشياء متروكة إلى الزرقة» (2004)، «كأنّي أدحرج المجرّات» (2010)، «حارس الضحّيّة» (2023).